الشباب الأرتري بين الهجرة

وتحديات الواقع ..وآفاق المستقبل

بقلم

إدريس عبد الله أحمد قرجاج

 

من المعلوم أن فترة الشباب هي أغلى فترة في حياة الإنسان، والشباب هم أغلى ثروة وقيمة في حياة أي مجتمع ولهم المكانة الكبرى في حياة الأمم، باعتبارهم المحرك الأساسي للحياة في مجتمعاتهم، وهم كذلك القوة الدافعة والعطاء المتدفق، والدماء الجديدة في كل شعب.

ومن كل ذلك تأتي أهمية الشباب الإرتري في الحاضر والمستقبل لما لهم من أثر طيب وفاعل في الحياة المجتمعية والإنسانية المرتبطة ببناء الوطن مثلما كان لهم الدور الفاعل والحاسم في ساحات القتال سواء كانوا تحت لواء جبهة التحرير الإرترية أو الجبهة الشعبية حاملين مشاعل الحرية والاستقلال عندما روت دمائهم الزكية الطاهرة تراب الوطن، ولولا تضحياتهم الغالية لما كانت إرتريا اليوم دولة حرة مستقلة لها علم ونشيد وطني يرمز لسيادتها الوطنية بالرغم من تحفظي على العلم والنشيد الحالي الذي لم يكن للشعب الإرتري حرية المصادقة عليه عبر القنوات القانونية والتشريعية التي تجيز اعتماده.

ولا أقول هنا أنهم كانوا لوحدهم ولكنهم كانوا وما زالوا القطاع الأكثر حيوية بين كل القطاعات المجتمعية الذي جسد الرؤى السياسية وطبق الإستراتيجيات الوطنية للقادة وحولها إلى انتصارات ميدانية ونجاحات ملموسة أبهرت بفعلها البطولي العدو قبل الصديق في كل معركة من معارك التحرير التي خاضها الشباب بإباء وإكبار وحس وطني عالي يتوق شوقاً للشهادة، وهذا ما كان في  مندفرا – وعدي خالا – وتسني – وأغردات – وكرن – وبارنتو – و مصوع – ودنكاليا الشمالية والجنوبية، وكل بقعة من بقاع الوطن الغالي تحكي قصة أمجاد شكلت عنوان فخر واعتزاز وشموخ يناطح السحاب ويحلق عالياً في سماء طالما أنها كانت شاهداً عند البدء في آر ، وأومال ، وتقوربا.

إذن هكذا كان الشباب في الماضي القريب حيث دخلوا التاريخ ليسجلوا في صفحاته الناصعة ملاحم بطولية ظلت خالدة في ذاكرة إرتريا الثورة والمجتمع والدولة، ومضرب مثل لكل شعب  يكافح من أجل الحرية والاستقلال.

وإذا كان هذا هو الماضي الذاخر بالعطاء الامحدود فإن الواقع اليوم يصطدم بتحديات الحاضر المتعلقة بنظام أفورقي الديكتاتوري غير الشرعي الذي شيد سلطته القائمة على جماجم الشباب الإرتري مثلما فعل نظام بول بوت في كمبوديا رافعا شعار((أنا الدولة، والدولة أنا)) ومن بعدي الطوفان غير عابهاً بحقوق كل الإرتريين في المشاركة السياسية والبناء والتعمير والتنمية والإصلاح والتحول الديمقراطي والأمن والاستقرار والعيش بكرامة في وطن طالما ضحوا من أجله.

ولكن واقع الحال الذي يجري أن الشعب الإرتري يعيش في دوامة القهر والظلم والاستبداد..وكأن الإعادات لا تتم إلا في الأمور السيئة لأن أوضاع الحاضر تذكرنا بأوضاع مشابهة إن لم تكن أسوأ عن مرحلة الماضي الاستعماري.

وإذا كان الحال هكذا فإن الشباب هم من يولدون في أحلك الظروف ولأنهم كذلك تفطن الطاغية أفورقي لهم فزج به في حروبه الخاسرة أو في معسكرات التجنيد المنتشرة في البلاد محولاً طاقاتهم الإبداعية إلى آلة متجمدة بلهاء أو دفعهم نحو الهجرة القسرية دفعاً حتى يخلو له الوطن ليبعث به كيفما شاء بغض النظر عن المآلات المأساوية التي تنتظرهم في طريق الهجرة الإجبارية التي غالياً ما تكون محفوفة بالمخاطر إما الموت غرقاً في مياه البحر الأبيض المتوسط أو القتل على الحدود المصرية الإسرائيلية أو النجاة لمن حالفهم الحظ وكتب الله لهم أعمار جديدة.

كل هذه الأمور تحدث مع شبابنا لأننا نعيش في زمن أفورقي وعصابته حيث غاب العدل في زمنه وأصبحت وسائله قيد وأغلال، وفي زمنه تراق دماء الأبرياء بلا ذنب فكم سجنوا وقتلوا بالظن واغتالوا.

ولذلك فإن التحديات التي تواجه الشباب الإرتري كبيرة وتنبع من عوامل عدة في مقدمتها معرفتهم بالإرث النضالي للجيل الأول المؤسس الذي فجر الثورة وأبقى عليها متفجرة رغم كل المخاطر والصعاب، والجيل الثاني الذي قاد مسيرة التحرير مقدماً عظيم التضحيات وأنجز الاستقلال، والربط بين هذين الجيلين مهم جداً لجيل الحاضر حتى يتمكن من سبر الفجوات الواسعة الحاصلة بحكم التباعد الزمني أو بحكم قلة الاحتكاك الذي يتسبب في عدم الإطلاح الكافي على تجربة الثورة على حقيقتها والوسيلة التقريبية المتاحة لردم الفجوة وهي القراءة حتى لو تعددت المصادر ولكنها في كل الأحوال سوف تقدم صورة مقربة يكون لها فعلها المؤثر في تنمية الوعي المعرفي لدى الشباب الارتري لجهة تمكنهم من الوقوف على أهم المحطات التاريخية بكل ما حملته من نجاحات أو إخفاقات كان لها حتما إسقاطاتها المهمة في واقعنا المعاش وهو أمر لا يمكن تجاهله.

وبما أنه أصبح من المعلوم وجود أعداد كبيرة من الشباب الإرتري المهاجر الذي يعيش في بلاد الشتات وأخر يعيش بعد هجرة قسرية في دول الجوار فإن وجودهم في هذه البلدان يعتبر عاملاً آخر يشكل تحدياً مهماً لشبابنا في ظل غياب آفاق سياسية تنموية شاملة تستوعب الإمكانات والطاقات الشبابية المختزنة سواء من قبل النظام الديكتاتوري الطارد للقدرات الشبابية أو من قبل التنظيمات السياسية المعارضة التي لم ترتقي ببرامجها التنظيمية وخطابها السياسي لمستوى طموحات الشباب حتى تكون جاذباً لهم. إذن كيف للشباب الإرتري أن يجعل من أسباب الهجرة الناجمة عن التهميش والإلغاء وفقدان فرص التعليم الأساسي والعالي والعمل، وكذلك انعدام فرص المشاركة في الحراك السياسي والاجتماعي والثقافي فضلاً عن حرمانهم من الوطن ليجدوا أنفسهم بلا وطن في أوطان غيرهم وهنا حري بهم أن يحولوا تلك الأسباب بمرارتها إلى قوة تدفعهم نحو المشاركة في إحداث التغيير والتقدم نحو الصفوف الأمامية فارضين وجودهم ويستردوا مكانتهم لأن الحاضر لا يؤمن إلا بالأقوياء الأشداء وأما المستقبل فتنتزع فيه الحقوق انتزاعاً.

ولعل من التحديات الأخرى والتي تواجه الشباب وخاصة أولئل الذين استقر بهم الحال في بلاد المهجر نمط الحياة السريع الذي لا يعطي الشاب وقتاً للتأمل ومن ثم لا يساعد على معرفة هويته الوطنية أو الحفاظ عليها عن طريق الترجمة المتأنية للمعلومات التي ينقلها من العالم الخارجي إلى عالمه الداخلي وإضافة إلى هذا النمط السريع فإن وسائل الإعلام خصوصاً القنوات الفضائية والانترنت تتدخل بقوة مؤثرة في تشكيل صورة الإنسان لعالمه ونفسه وهنا يجد الشاب صعوبة في الاحتفاظ بهويته ويجد كذلك صعوبة في تطوير هوية خاصة به تتلاءم مع  قيمه وهويته الأصلية. وإذا كان الشباب الإرتري في الخارج هم والواجهة التي يتعرف الأجانب من خلالها على عقيدتنا وبلادنا وهويتنا وثقافتنا وتراثنا وعاداتنا وتقاليدنا فهم أيضاً أمل بلادهم الأصلية بالدرجة الأولى نحو تحقيق النهضة المرجوة في كافة المجالات.

ومن مأثورات «المهاتما غاندي» التي تشد الانتباه والتي تدل على التمسك بالأصل والتشبث بالهوية والاحترام لها والحرص على عدم فقدان القيم الحضارية المغروسة في النفس من البلد الأم، بل تعلم واكتساب كل ما هو جديد مفيد ، قوله: «إنني لا أريد أن ترتفع الجدران من كل جانب حول بيتي ولا أن يحكم إغلاق النوافذ إنني أريد أن تهب ثقافة كل أرض حول بيتي بأقصى قدر من الحرية، لكنني أرفض أن تقتلعني ريح أي منها من جذوري»

وفي هذا الكلام الكبير الموجه، نداء ذا معنى عميق يمكن لشبابنا في المهجر أن يستفيدوا منه لأنه يحمل دعوة ذات مضمون كبير بأن لا يتخلوا عن هويتهم وثقافتهم مهما كانت المغريات وهنا أتساءل ما مقدرة شبابنا اليوم على الصمود أمام إغراءات المجتمع العصري من وسائل لهو لا متناهية ودوامة الملذات ومرض الشهرة والتسويق الفكري المضلل والتحول القيمي المخيف والنجاح السهل المنطلق دوماً من مقولة: «الغاية تبرر الوسيلة» لذا من الأجدر أن تكون للشباب الإرتري أهدافهم المعبرة عن كينونتهم والقادرة على الإيفاء بحاجاتهم وحاجات بلادهم.

وأتساءل مرة أخرى هل يكفي الشباب تكريس الشهادات والخبرات والأفكار كمخزون علمي ومعرفي ذا قيمة حياتية دون أن يخرج إلى النور ليوظف إنسانياً في كافة مجالات الحياة المدنية؟

وبالمحصلة أقول: نعم لقد هجر الشباب الإرتري بلادهم والحسرة تعتصر قلوبهم لفراق الوطن والأهل والأحبة بعد أن خيم عليها النكد والبؤس والبلاء واتجهوا إلى فضاء الله الواسع يجتازون البراري ويقطعون البحار حتى حطوا رحالهم في بلاد المهجر حيث هم موجودين الآن..نعم إن هجراتهم تلك لم تكن ميسورة الطريق ولا هينة الوجهة.

ولكن لا أتمنى لهذه العقول الشابة أن تصيبها رماح المصادرة والإندثار لأن إرتريا اليوم في أمس الحاجة لكل فكر متحضر، منفتح ، واع ، متقدم ، متمسك بهويته الوطنية ، حتى لا يسقطوا في الحسابات الخاطئة  في طريق انحداري سوى الرهان على البقاء في اللامكان والمأساة أننا أصبحنا أسرى لهذه الحسابات وهذا الرهان في وقت واحد.