في معنى الحوار والشراكة ..قيم وطنية ؟

إدريس عبد الله قرجاج

لاشك إن الكلام هو موهبة الإنسان الأول وشغفه الأكبر, ولاشك أن اللغة هي أساس التفكير, ولاشك أن معنى الحوار يخرج من الحق في الاختلاف الذي يحترم كل الخصوصيات العرقية ,والدينية ,والمذهبية ,والسياسية, والجهوية بين كل المكونات الاجتماعية, وان انعدام الحوار سيمثل العنوان الكارثي المرادف لفناء المجتمع وتدمير الحياة.

لذلك نحن في إرتريا بأمس الحاجة إلى الحوار باعتباره آلية حضارية ومطلب وطني يجب انتهاجه وممارسته في معالجة كافة القضايا السياسية والفكرية والاجتماعية والدينية التي محل حديث واختلاف, وبالحوار يمكننا أن نتصدى للأفكار الإقصائية والقيم القائمة على الكراهية ورفض الآخر, وهذا يقودنا إلى الشراكة الوطنية التي تعنى حصول كل طرف على حقوقه المشروعة من خلال الحوار البناء والمتكافئ في ظل دولة المواطنة.

وقد يكون كل ما تقدمت به من توضيح لمعنى الحوار والشراكة كلام جميل وفيه منطق مقبول يصلح للتداول, ولكن أنا هنا بصدد التطرق إلى موضوع تناوله الأستاذ/ عمر جابر بوصفه رجل سياسي مخضرم, وكاتب في مصاف القامات الفكرية التي يؤخذ برأيها وان الإشارة إليه ليس من باب النقد والرد بقدر ما أنني أتناوله في سياق فهمي لمضامينه بأنه دعوة مفتوحة للقراءة والنقاش لما تضمنته الأجزاء الثلاثة لمقاله الموسوم بعنوان: شركاء مع وقف التنفيذ؟ ومن قبله بفترة مقاله الذي جاء تحت عنوان: الحوار الوطني - الفريضة الغائبة, ونظرا لتلك المضامين التي وردت في حيثيات المقالين والتي تفتح الباب واسعاً حول كيف نقرأها أو نفهمها باعتبارهما ثقافة يجب أن تكون قائمة بيننا ونحرص على التشبث بها والعمل على تطويرها وتمتينها والمحافظة عليها كضرورة بالغة الأهمية في تثبيت دعائم السلم السياسي والاجتماعي والديني الذي يرسخ قيم الشراكة بين كافة مكونات المجتمع الإرتري.

ولكن كيف يستقيم الوضع في ظل الاعتقاد السائد بيننا والمفضي بان كل واحد منا يدعى لنفسه انه يمتلك الحقيقة المطلقة ويعلم معناها الكلى والشامل وانه صاحب الرؤية السياسية الصائبة والفكر السليم , وما عداه ناضب الفكر وقاصر في الرؤية السياسية

ولا يمتلك لتلك المزايا المميزة التي يتفرد بها ونأخذ هنا حالة "حزب الشعب" كظاهرة استعلائية حيث يرى في نفسه انه فوق الجميع وفقا لمؤهلاته التنظيمية والبرامجية, وفى اعتقادي هنا يكمن الخطأ ليصبح مصدر اعتقال العقل الإنساني أي عقل الذات وعقل الآخر, وبالتالي يشكل المصدر الذهني لكل قمع كما هو حاصل الآن بين قوى المعارضة ورموزها, وبالاستناد إلى ذلك فإن أزمة الحوار بيننا قبل غيرنا تضرب بجذورها في البنية الذهنية في العقل المعارض وهى بذلك أعمق من ممارسات حاكم ظالم أو حزب واحد مسيطر يرفض مبدأ الشراكة الوطنية.

وهنا لابد لنا أن ننقل الحوار من دائرة الدعوات المفتوحة والخطب الرنانة والتمنيات الحالمة إلى مستوى الحاجيات الحياتية المشتركة بين الخصوم بقصد الارتقاء إلى طموح مشروع ورغبة في الأخذ والعطاء ويكون مسارها "الآن" وتتمثل بأهمية ودور الحل الوسط المنصف, وفى التوفيق بين المصالح, والمواقف, والآراء, و الأهداف المتنافسة التي يفترض وجودها, وتفترض شرعيتها, ويؤكد هذا المبدأ على أهمية الحوار والإقناع والمحاججة وصولاً إلى إلغاء التمايز القائم على "الأنا" إلغاءاً تاماً بغية التحقيق الناجز لمفهوم الشراكة الوطنية العادلة, وأما نقيض هذا المبدأ هو تشبث كل تنظيم بذاته وخصوصيته وانعزاله نفسياً وشعورياً وثقافياً عن غيره من التنظيمات.

إذن بات من الواضح أن حرصنا وتمسكنا بمبدأ الحوار الوطني الغاية منه التأكيد على الشراكة الوطنية باعتبارها خيارا ثابتا غير قابل للتغير طالما إننا نعيش في بلد واحد, ولكن هل الطرف الآخر يؤمن بالشراكة أعتقد "لا" بل أنه عمل على شطبه من قاموسه السياسي في وقت مبكر جداً, ونستشهد هنا بمثال من وحى التاريخ القريب, وذلك عندما التفت قيادة "الجبهة الشعبية"على الاتفاقية المشتركة بينها وبين جبهة التحرير الموقعة في 20/10/1977م والتي أقرت تشكيل قيادة مشتركة بين التنظيمين بشأن أي تفاوض مستقبلي مقترح مع العدو الأثيوبي بذهابها لوحدها لمفاوضات "برلين" دون التنسيق مع قيادة جبهة التحرير بالرغم من أن دعوة الحكومة الألمانية في حينها كانت موجة للطرفين ووقتها فوجئ وفد جبهة التحرير بأن المفاوضات السرية جارية بين حكومة العدو الأثيوبي ووفد الجبهة الشعبية بقيادة أفورقي ولم تؤثر عليه مفاجأة الجبهة الشعبية الصادمة وطلب وفد القيادي "للجبهة" من الطرف الأماني ضرورة أن يكون هناك وفد إرتري واحد وعرض اقتراحه على وفد الجبهة الشعبية والذي جاء فيه (أن القضية واحدة, والهدف واحد, والشعب واحد) ولهذا كله ندعوكم إلى تشكيل وفد إرتري واحد لإجراء هذه المفاوضات خاصة وأنها تجربة جديدة معروضة على الثورة الإرترية. فكان رد قيادة "الشعبية" رفض فكرة الوفد الواحد بشدة من أساسها وأصر على المضي في المفاوضات بمفرده ضارباً عرض الحائط باتفاقية 20/أكتوبر/77م الأمر الذي أجبر وفد جبهة التحرير أن يجرى هو الآخر مفاوضات مع حكومة العدو الأثيوبي لوحده وللتذكير بأن "الجبهة" وقتها لم تخرج من المعادلة الثنائية على مستوى الساحة الإرترية.

وعلى ضوء هذا المعطى التاريخي الذي يشكل جزءا محدودا من أجزاء كثيرة تختزنها الذاكرة التاريخية الحافلة بمثل هذه المواقف مما يؤكد بأن الجبهة الشعبية بقيادة أفورقي لم تؤمن في يوم من الأيام بأن الحوار أسلوباً وطنياً حضارياً لابد منه, وأن الشراكة الوطنية خياراً استراتيجياً يجب تحقيقه وصونه من أي عبث سياسي طائش.

وعلى النقيض من سلوك أفورقى وتنظيمه ,ألم تستقبل المعارضة الارترية الهاربين من سلطة أفورقي التي صفقوا لها من أمثال: مسفن حقوص وزير الدفاع السابق وكذلك السفراء السابقين: عبد الله آدم, ومحمد نور أحمد,كأعضاء جدد في تجمع التحالف الديمقراطي الإرتري بالرغم من أن خلافهم مع أفورقي خلاف مصالح ومناصب ومع ذلك تم التحاور معهم وإفساح المجال لهم بالمشاركة إيماناً منها بقيمة الحوار والشراكة اتساقاً مع ذاك التاريخ الذي أشار إليه الأستاذ: عمر جابر, عندما ذكر بأن جبهة التحرير ثبتت اللغة التغرينية بجانب العربية عند بداياتها التي لم يكن للمسحيين تواجدا فيها, وهذا يبين لنا كم هو شاسع الفارق بيننا والذي يتجسد في مرونة تبديها قوى المعارضة يقابلها حسم قاطع تتميز به سلطة أفورقي برفضها للحوار والشراكة الوطنية.

وبعد هذا كله ماذا تبقى سوى النطق بقول الحقيقة الساطعة لا حوار ينتظر ولا شراكة في ظل سلطة أفورقي الطائفية, وبالنتيجة إذا كان ماضينا أفضل من ماضيهم, فإن حاضرهم أفضل من حاضرنا, وهم الرابحون الآن ونحن الخاسرون مرحلياً, وهم متوحدين خلف قيادة أفورقي ونحن متفرقين نحط من قدر قيادتنا إن وجدت, وأما المستقبل فمعلوم لديهم وأما نحن المستقبل لنا بحكم وزننا وتأريخنا المجيد وفى النهاية ربما يأتي أحد من بيننا ليصحح المعادلة ...!!.