إرتيريا: بين سلطة غير شرعية.. وعروبة مفقودة ..

بقلم: إدريس عبد الله قرجاج

إن تحديد الهوية لأي بلد يقاس بالأغلبية الجمعية لمكوناته الاجتماعية التي تعبر بشكل وبأخر عن انتمائه لأي أمة من خلال أنماط الحياة المتصلة بالجذور العرقية والدينية والثقافية والتاريخية فضلا عن الجغرافيا المحيطة به لتعرف عن هويته، وإذا أخذنا في الاعتبار هذه العوامل فنجد أن الشعب الأرتيري بتكوينه الاجتماعي الحالي لا شك أنه نتاج طبيعي لتلك الأنماط لكونه نشأة وتكونه عبر هجرات قديمة وحديثة متصلة بأصوله السامية والحامية التي عبرت البر والبحر لتكون نسيجا اجتماعيا في أغلبيته انحدر من عربا عاربة أو عربا مستعربة، دون أن نغفل حقيقة التنوع العرقي الذي يدخل فيه العنصر الزنجي الإفريقي كأحد مكوناته الاجتماعية الأصلية، وبهذا المعنى فإن منطق التاريخ وحقائقه المتأصلة على أرض الواقع تؤكد بأن الشعب الأرتيري – شعب عربي أكثر من غيره على مستوى شعوب القرن الأفريقي، ولا يحتاج إلى شهادة إثبات أو اكتشاف لهويته بقدر ما يحتاج إلى استنطاق لإرادة شعبه المعبرة عن هويته وإن فقدها مرحليا وذلك لمواجهة التحديات التي استحدثتها سلطة الجبهة الشعبية في أرتيريا بقيادة " أفورقي" عندما قرر شطب وإلغاء الهوية العربية لأرتيريا الشعب والدولة بما تحمله من ثقافة متجذرة واعتبار ارتيريا دولة أجنبية في محيط عربي إسلامي فوقع في المحظور الذي سبقته فيه عددا من الدول الأفريقية عندما قررت اعتماد استراتيجية الاستيعاب السياسي المعروفة في التاريخ الأفريقي بنظام الحزب الواحد الاستيعابي أو نظام الدولة المركزية الموحدة لإدارة التنوع الاثني والثقافي حيث كانت ترى معظم القيادات الإفريقية كما يقول " أمباي لو" الباحث النيجيري أن المجتمع الأفريقي يختلف عن المجتمعات الأوروبية ، حيث أن الميزة الطاغية التي يتميز بها المجتمع الأفريقي هي التشرذم وسيادة الروح القبلية والقيم العشائرية وأن إتاحة الفرصة للتعددية الحزبية والسياسية يفتح الباب واسعا أمام تقسيم المجتمع ويشكل تهديدا للوحدة الوطنية.

وإذا أخذنا بهذا الوصف فإن تجربة إستراتيجية الاستيعاب السياسي لقد فشلت لدى كافة الدول الأفريقية حيث الشواهد الحية لبعض الدول الأفريقية ومثال على ذلك نيجيريا، السودان، كينا، .. والتي اتجهت جميعها على ترسيخ سياسة الاستيعاب الطائفي أو الاثني أو الثقافي وفرض ثقافة الجماعة الحاكمة إثنياً ودينياً بهدف استيعاب كل مكونات المجتمع المختلفة، داخل حدود الدولة وخلق مجتمع تذوب فيه كل الجماعات العرقية والدينية في إطار الجماعة الحاكمة بسطا لسيطرتها وتقوية لمكانتها المهيمنة على مقاليد الحكم، وعندما أدركت هذه الدول فشل هذه السياسة لجأت هذه الدول إلى اعتماد سياسة الاندماج الوظيفي القائم على المصلحة المشتركة لكل مكونات المجتمع المختلفة من حيث العرق والدين والثقافة كبديل مناسب لمجتمعاتها بغية الوصول إلى الاندماج الوطني المستند إلى بعض الأسس الوظيفية والمؤسسية التي تنطلق من مبدأ قبول المجتمع بكل تنوعاته للعيش في إطار دولة موحدة تستوعب حاجات المجتمع الضرورية في صيغ الحكم الذاتي الإقليمي التي تمكنه من التعبير عن ثقافته وهويته ضمن حدود الدولة الواحدة وقد يرى الكثيرين من الكتاب والباحثين المهتمين بهذا الشأن بأن صيغة الاندماج الوظيفي هي أفضل الطرق لإدارة التنوع الاثني والديني والثقافي لكونها تعترف بالآخر وتضمن في الوقت ذاته عددا من الخيارات مثل الحكم الذاتي أو الفيدرالي، وبالتالي إن إدراك الكثير من الدول الأفريقية والعربية التي تتميز بالتنوع الاثني والديني والثقافي الأهمية القصوى لمسألة الاندماج الوطني لوحدة بلدانها ونذكر هنا السودان الذي اعتمده نظام الولايات والعراق نظام الأقاليم، وكذلك بدأت تشرع بعض الدول العربية في أن تطبق فكرة الأقاليم اعتقادا منها بأنها تشكل المدخل المناسب لمعالجة الفوارق الاجتماعية وإقامة العدل في توزيع الثروة، وسهولة الإدارة وصولا لتحقيق تنمية شاملة متوازنة تنهض بالدول ككيان موحد وتجنبها في الوقت ذاته عوامل الإحساس بالإهمال والتجاهل أو الظلم المفضي إلى تخلف بعض أقاليم الدولة اقتصاديا وتنمويا مما يولد التوتر والاضطراب الذي يقض مضاجع هذه الدولة أو تلك ويدخلها في دائرة عدم الأمن والاستقرار .

واسترشاداً بهذين النموذجين حول سياسة الاستيعاب الوطني وإسقاطهما على الوضع القائم في ارتيريا فنجد بأن نظام أفورقي ما زال يعيش في الخزعبلات الفكرية الفارغة من الشكل والمضمون والمستندة على تضليل الرأي العام بغية الإبقاء على النهج الديكتاتوري وإقصاء الشركاء في الوطن من الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ولم يستفد من تجارب وأخطاء الغير بل زاد عليهم بتجربته الخاصة والفريدة من نوعها في الحكم الديكتاتوري ففي كثير من بلدان العالم النامي هناك نظم ديكتاتورية حاكمة وإن أقامت انتخابات صورية يفوز بها الحاكم وحزبه بنسبة (90%) وما فوق ليظهر أمام الرأي العام الوطني والعالمي بأنه نظام ديمقراطي منتخب معطيا لنفسه شرعية الحكم، أما في الحالة الإرترية لا توجد حتى مثل هذه الانتخابات الصورية وإن الحديث عن نظام ديكتاتوري في أرتيريا من قبل منتقديه يعتبر من وجهة نظر النظام الارتيري أمر مخجل كما عبر عنها بنفسه في الفضائيات العربية والتي شاهدها عددا من الجمهور الارتيري والعربي، ويرى البعض بأن هذا الحديث فيه الكثير من التجني والاستخفاف بعقول البشر ولا يعكس بالضرورة عن حقيقة الأوضاع في إرتريا .

وبكلام آخر يمكنني أن أستنتج بأن النظام السلطوي للجبهة الشعبية هو المهيمن على المجتمع الأرتيري ويعمل على تهميشه والحد من خياراته ومبادراته ومشاركاته في إحداث التغير والإصلاح الذي يتطلع إليه الشعب في تحديد مستقبله،وفي اعتقادي هذا هو الأمر المخجل، لذلك فإن النظام يعيش في حالة عجز تام.

ولعل من المهم أن نشير هنا بأن سلطة أفورقي في أرتيريا تمر بأزمات عدة مهما حاولت الهروب منها أو عمد على أن لا يصرح بها وأبرزها:

• أزمة الشرعية في الحكم فمن المعلوم بأن شرعية الحكم لأي نظام مصدرها هو الشعب ويمنحها لمن يختاره عبر وسيلة الانتخاب أو الاستفتاء وبما أن أرتيريا لم تشهد انتخابات رئاسية أو برلمانية فمن الطبيعي أن يعرف نظام الجبهة الشعبية الحاكم بأنه فاقد للشرعية وليست له الأهلية لحكم الشعب والبلاد، وأن الشرعية الثورية التي يستند إليها النظام غير كافية لحكم البلاد وإذا كانت كذلك فإن المكانة التاريخية لجبهة التحرير الارتيرية تسمح لها بأن تكون على رأس الحكم في أرتيريا وبالنهاية لا هذا ولا ذاك فإن مبدأ الشرعية الشعبية هو سيد الموقف وهو القاعدة الثابتة لتأسيس المشاركة السياسية التي بإمكانها أن تفرز الحكم الشرعي المنتخب من قبل الشعب لممارسة مهامه الدستورية.

• غياب العدالة الاجتماعية والمساواة بين قوميات المجتمع الأرتيري وقد تجلى ذلك بوضوح لا لبس فيه ولا غموض عندما عمل نظام الجبهة الشعبية على فرض قومية (التغرينية) وثقافتها المنتمي إليها على حساب المكونات الاجتماعية الأخرى التي تشكل الأغلبية لمجمل الشعب الأرتيري وبالتالي تمكين قومية (التغرينية) من شغل وظائف الدولة في كافة مؤسساتها الرئيسية وجعل ثقافة فئة قومية (التغرينية) هي المستحوذة والتي يجب أن تنصهر فيها كافة القوميات وأن تقبل بها لأنها تمثل ثقافة الفئة الحاكمة، وبالتالي اعتبارها ثقافة الدولة وإذا استمرت سلطة أفورقي في هذه السياسة التي ترفع فئة بعينها على الجميع والتي يجهلها الكثيرين في العالم العربي فإنه بدون أدنى شك يحمل بكلتا يديه معاول الهدم والتدمير لمبدأ التعايش الوطني بتكويناته الاجتماعية والدينية والثقافية ويدشن لمرحلة التخندق الاثني والطائفي الذي يحمل في طياته العواقب الوخيمة لمجمل الكيان الارتيري الحديث في استقلاله وتكوينه.

• غياب الديمقراطية ومبدأ الحريات في كل جوانبها من الحياة العامة للمجتمع الارتيري ولو بمستويات الحد الأدنى وأن طرح مسألة الديمقراطية للنقاش أمر مرفوض بالمطلق من قبل سلطة الجبهة الشعبية وبالتالي احتكار السلطة بيد رأس النظام وحزبه وقوميته وتأميم المجتمع الارتيري بالكامل ومصادرة حقوقه المشروعة في حرية التعبير بكافة صورها وإذا كان ثمة وصف لحالة الوضع الراهن في أرتيريا فأقل ما يقال حولها أنها سلطة استبدادية تجبر كافة أبناء المجتمع الارتيري للامتثال القسري لإرادتها والخضوع لمشيئتها والقبول لمسوغاتها مهما كانت، وهذا ما أكدت عليه كافة التقارير الصادرة عن منظمات حقوق الإنسان الدولية وآخرها تقرير مجموعة الأزمات الدولية والتي أشارت إلى أن الوضع الحقوقي في ارتيريا يعتبر الأسوأ بين بلدان العالم الثالث بكل المقاييس وبالتالي فإن مسألة التغيير والإصلاح والتحول الديمقراطي في ظل نظام أفورقي الحالي أمر بعيد المنال إن لم يكن مستحيلا في نظر الكثير من المراقبين والمتابعين للشأن الأرتيري.

• إن بواعث الأزمات والنزاعات والتوترات التي تشهدها دول القرن الأفريقي يتضح لنا من خلال المتابعة بأن القاسم المشترك هو ارتيريا باعتبارها العنصر الثابت في كل نزاع أو توتر وتتأكد صحة ذلك بما قام به النظام الأرتيري بدءا من النزاع المسلح مع اليمن باستيلائه على جزر حنيش والعلاقات المضطربة مع السودان بدعمه لحركات التمرد السودانية ، وخوضه لحرب مع اثيوبيا لمدة عامين واعتدائه الأخير على جيبوتي ، وتدخله في النزاع الدائر الذي يشهده الصومال بدعمه لحركة الشباب المجاهدين والحزب الإسلامي بقيادة طاهر عويس ضد حكومة الرئيس شيخ شريف ، وجميع هذه الأزمات المتسلسلة كان وما يزال أحد أطرافها سلطة أفورقي بالرغم من أنه يدعى بأنه ليس المتسبب بها ويرمي باللائمة على أطراف أجنبية لها مصلحة في إثارة هذه الأزمات والتوترات التي تمر بها منطقة القرن الإفريقي وبغض النظر عن مسوغات سلطة أفورقي في أرتيريا من صحتها أو عدمها فإن المؤكد بأن الوضع الراهن في ارتيريا لا يبشر بخير ويحتاج لجملة من المعالجات الصحيحة والتي لا يمكن لها أن تأتي إلا من خلال الشعب الارتيري نفسه بتغيير واقعة وإسماع صوته للعالم وبأنه شعب مسالم ولا يقبل بما يصدر عن نظامه من تصرفات وممارسات تسيء للعلاقات التاريخية مع جيرانه.

وفي ضوء ما تقدمت به من عرض مقرب لمجمل الأوضاع في أرتيريا بعد مرور (17) عاما عل استقلالها فهناك ثمة شيء يفرض نفسه وهو أن جميع الدول العربية وقفت بجانب الشعب الأرتيري من أجل تقرير مصيره وقدمت الدعم المادي والعيني والمعنوي إيمانا منها بعدالة القضية الارتيرية طوال ثلاثين عاما من الكفاح على طريق الحرية والاستقلال حيث كان الإنسان الارتيري محل ترحيب أينما حل في البلدان العربية فوجد عند أشقائه العرب الإقامة والعمل والتعليم لأبنائه ولكن بعد مرحلة التحرير وإعلان ارتيريا دولة مستقلة. يلاحظ بأن العلاقات العربية بالشعب الأرتيري قد تغيرت من حيث نظرتها للأرتيريين كشعب عربي وذلك بسبب السلوك السياسي الصادر من النظام الأرتيري المناهض والمعادي في بعض الأحيان للعرب مما انعكس سلبا على علاقات الشعب الأرتيري بأشقائه العرب، وبالنتيجة تحمل الأرتيريين عبء هذا السلوك المسيء للدور التاريخي للدول العربية.

ولكن بالمقابل لماذا يحمل الشعب الأرتيري من أشقائه العرب وزر سياسات السلطة الارترية؟ وإذا كان الموقف العربي مبني من حيث المبدأ في دعمه للقضية الأرتيرية باعتبارها قضية عربية فإن الثابت هنا أن تنحاز الدول العربية لجانب الشعب الأرتيري ودعم خيارته الوطنية انطلاقا من وشائج القرب الجغرافي والتداخل الاجتماعي والثقافي والعلاقات التاريخية وليس اتخاذ مواقف حيادية وكأن أرتيريا وشعبها تقع في جزر الكاريبي وليس في الإطار العربي.

أقول هذا الكلام لأن الموقف العربي المحايد كما هو مشاهد في كافة الأحداث التي تشهدها منطقة القرن الأفريقي من المفترض أن تكون في صلب دائرة الاهتمام العربي ومن الأجدر أن يكون للعرب السبق في أخذ زمام المبادرة بحكم مقتضيات المصالح العليا باعتبار دول مثل الصومال وجيبوتي وأرتيريا تقع في المجال الحيوي للأمة العربية وتشكل في الوقت ذات بيئة استثمارية هائلة تستفيد منها الدول العربية وشركات الاستثمار العربية خاصة في مجالات البنيات التحتية بجانب مجالات الصحة والتعليم والاتصالات والزراعة والثروة الحيوانية والسمكية وغيرها التي بأمكانها أن تساهم مساهمة كبيرة في دعم الاقتصاد العربي وكذلك يكون لها فعلها الايجابي في انتشال شعوب هذه الدول من حالة التخلف والجهل والفقر التي تحاصرها إذا ما توفرت رؤية عربية عميقة في أبعادها ومدلولاتها حتى لا تكون منطقة القرن الأفريقي ساحة مفتوحة لاستقطابات القوى الأجنبية التي تحرص دوما على تحقيق مصالحها وبسطا لنفوذها فإلى متى يظل العرب في حالة الانتظار والفرجة من كل ما يجري في القرن الإفريقي العربي.!