سياسة الاجتثاث والاستيطان - ثنائية - تهدد مفهوم المواطنة

بقلم إدريس عبد الله قرجاج

لقد اقتلع الناس من ديارهم في جميع الحقب التاريخية وفي كل أنحاء العالم بسبب الحروب، والاضطهاد، والصراع، والكوارث البيئية وقد يكون هذا مفهوماً بالنظر إلى تلك الأسباب التي أدت إلى اقتلاعهم، ويجد المجتمع الدولي نفسه بأنه لا مناص من تقبل وضعهم، وتقدير ظروفهم، وتقديم الخدمات الإنسانية لهم وتخفيف أحزانهم، والبحث في طرق معالجة مشكلاتهم.

ولكن هناك أعداد متزايدة يتم اقتلاعهم واجتثاثهم من مناطق سكاناهم داخل بلادهم دون رغبة منهم مثلما حدث في تاريخ قريب عندما أسس فوك دار كوفيتش في عام 93م حركة سياسية أرثوذوكسية متطرفة أطلق عليها (حركة التجدد الصربي) فالتف وتجمع حوله "الصرب" المنادين بالتطهير العرقي ضد المسلمين "الألبان" رافعاً شعار التهجير ضدهم، وما يقوم به الآن اليهود الإسرائليين في فلسطين المحتلة ضد الشعب الفلسطيني من عمليات مصادرة للأراضي واقتلاع للشجر والحجر والإنسان في سياق مخطط إسرائيلي يهدف إلى تحقيق أكبر قدر من التهجير والطرد الجماعي بحق الفلسطيين ملاك الأرض وأصحابها.وبالتالي فإن ما يقوم به أفورقي لم يعد استثناءاً بل هو اقتداءاً بنماذج سابقة حيث عمليات الاجتثاث واقتلاع الأرض والطرد الجماعي التي تقوم بها حكومة أفورقي تندرج في إطار السياسة العنصرية التي لن يختصر شرها تجاه مجموعة بعينها بل سيكون لها امتدادتها لتشمل الكل، ولذلك فإن البدء في عمليات توطين لمواطنين إرتريين على حساب إخوة لهم في الوطن هم أصحاب الأراضي الأصليون كالذي يحدث الآن في - بركا والقاش - لم يكن حدثاً معزولاً بقدر ما أنه يجري وفق مخطط مدروس بعناية يهدف إلى أحداث تغيير ديمغرافي ينسخ ما كان قائماً منذ أمد بعيد ولتحقيق هذا الهدف لابد من خلق ظروف صعبة، وقاسية تقوم على القهر والتسلط والاستبداد واستباحة حرمات الناس، والمساس بكرامتهم حتى يجبروا على ترك قراهم، وحواضرهم، ومزراعهم، وأماكن تولدهم التي توارثوها جيل بعد جيل ودفعهم نحو اللجوء مكرهين مرغمين ليتحولوا إلى ضحايا سياسة التطهير العرقي التي تطبقتها حكومة أفورقي تنفيذاً لقانون التمييز العنصري المرتكز على وثيقة "نحن وأهدافنا" ولذلك فأن الذي يجري الآن لم يأتي بين ليلة وضحاها بل هو تجسيد حيّ لرؤية سياسية اشتغل عليها أفورقي منذ وقت مبكر لأن الثورة وفق مفهومه تشمل برامج غير ديمقراطية في بناء المجتمع بعد الاحتلال، وفكراً مذهبياً يفرق المجتمع، ويشق وحدة الوطن، ويفرغ المواطنة من أي مضمون جمعوي، وهو بهذا المفهوم يطبق سلوكه العملاني بالمجاهرة في تسييس الانتماء الطائفي رافعاً عن نفسه الحرج وكأنه يقول لنا انظروا من حولكم حيث أصبحت الطائفية السياسية ظاهرة موجودة ولها تطبيقاتها كنظام سياسي قائم في لبنان والعراق ويجري العمل بها كمنهج للحكم، وربما تصلح بأ تكون هوية سياسية معتمدة في أرتريا.

وإذا كان هذا هو التفكير والنهج الذي اعتمده أفورقي فمن الطبيعي أن تستمر مخططات الأجتثاث ودون هوادة بحق الالآف من ملاك العقارات والأراضي السكنية في المدن الأرترية وكذلك الأراضي الزراعية في - بركا والقاش - أولئك الضعفاء والمستضعفون الذين لا تقل محنتهم ومشكلاتهم عن محنة اللاجئين دون أن تحظى مشكلتهم بما تستحقه من اهتمام من ظل غياب تشريع مدني يحميهم أو اللجوء إليه في حال وقوع المظالم من المستوطنون الجدد أتباع أفورفي الذين اعتدوا على أملاك وأراض أولئك الضعفاء في وضح النهار لأن المعتدي والقاضي وجهان لعملة واحدة مطبوع عليها صورة الديكتاتور وبالتالي فالبحث عن العدالة المنصفة يعتبر حماقة تعكس تعاسة المستضعفون المفترى عليهم والمسلوبة أملاكهم وأراضيهم.

وبعيداً عن أفكار أفورقي الشيطانية التي تؤسس لبذور فتنة لا يحمد عقباها من خلال سياسية الاجتثاث والاستيطان المضافة إلى سياسات تدميرية أخرى طالت المجتمع الأرتري في الكثير من المجالات فقد أثبتت التجارب أن عمليات الطرد والاجتثاث تؤدي إلى قدر كبير من الآلام التي لا ضرورة لها، وأنها نادراً ما تحقق الأهداف المعلنة أو المرجوة منها. لا بل أنها غالباً ما تؤدي على عكس المطلوب منها، والحكومات الفاشلة هي الوحيدة التي تلجأ لتلك الأساليب الجهنمية.

وإذا قلنا أن هذه بعض التحديات التي فرضها علينا نظام أفورقي كمهدادت تستهدف مفهوم المواطنة والتعايش الوطني وكلها تحديات لا يمكن الاضطلاع بها دون إبداع في التعامل مع قضايا مجتمعنا باحترام واضعين في حساباتنا الفكر التدميري الذي ينتهجه نظام أفورقي تحت عناوين مختلفة منها الاقصاء، والتهميش، والاستخفاف بقدرات الشعب ومصيره، وبث روح الفرقة ونصب الإفخاخ لينغمس كل المجتمع في خلافات بينية تلغى انشغالهم بإزاحة حكمه الذي أثبت فشله في كافة المجالات، فإن الواجب يفرض علينا التمسك أكثر بدولة المواطنة القائمة على الانتماء والعمل من أجل توطيدها كوعاء يتسع لكل طموحات شعبنا وهذه مهمة قوى المعارضة الارترية بكل تلاوينها السياسية وخلفياتها الفكرية. لأن المقاومة ضد نظام جائر كرس الظلم، والتعسف، والقهر قد يولد روحاً تحريرية في المجتمع ولا تقف إزاءه حركة المجتمع مكتوفة الأيدي وهذا ما يجب أن تستفيد منه قوى المعارضة طالما أنها ادعت لنفسها القدرة على تحمل مسؤولياتها الوطنية والشروع في تقديم البرنامج الوطني المرتكز على بناء مجتمع المواطنة في دولة المواطنة تفادياً لانهيار شامل ينذلق فيه الجميع بمتاهة الصراع الطائفي والاثني بين مكونات المجتمع الارتري.

لذا إن التواضع يفرض علينا أن نقيم مسيرة الماضي المقيم بيننا بأدوات الحاضر، وأن ننظر إلى قضايا الحاضر بكل تعقيداتها، وهمومها، واستحقاقاتها بلغة الحاضر، لأن مواجهة مشاريع وخطط نظام أفورقي التدميرية لا تقف عند التأكيد على قيم العدالة، والمساواة، والإنصاف والتي جميعها لا تتحقق بمجرد التبني العقلاني والمنطقي بل تحتاج إلى فهم بعضنا لبعض بالواقعية الواجبة لا المتخلية وتحتاج أيضاً إلى قرار حر يصدر عن إجماع وطني، هذا إذا أردنا أن نغير الواقع وليس من أجل تكريسه.