من أين لنا بمفرزة تميز لنا بين عناصر هذه الدول ؟ الكوري و الصيني و الياباني و الفلبيني الخ "الشعوب ألصفراء" ؟ عندما واجه هذا السؤال أحد المهندسين الكوريين في واحدة من المقاهي المكتظة بالخرطوم والتي يقول عنها أهلها "لحم رأس" لِما يتواجد فيها من أجناس وأعراق متعددة. كان رده ... يمكنك أن تستخدم نفس المفرزة التي تستطيع بها التميز بين الأشخاص في هذا المقهى وهذه الأفواج التي تمر أمامنا ؟ فلا شك أن من بين هذه الأفواج الأثيوبي والارتري والجيبوتي والصومالي والسوداني ... الخ  امتداد شعوب القرن الأفريقي، فأنا كذلك لا أستطيع أن أميز جنسية كل واحد من بين هؤلاء .

وكذلك الناظر إلى الشعوب المكونة لدول التكتلات الاقتصادية نافتا (دول أمريكا الشمالية)، إيفتا (دول أوروبا) ، كوميسا (دول أمريكا الجنوبية)  سيجد صعوبة في التميز بين جنسياتهم ما لم يكن منهم.

فالتشابه والتقارب الثقافي والحيز الجغرافي الذي تشغله دول القرن الأفريقي إنما هي مؤشرات على أن علاقات هذه الشعوب في الأصل طبيعية، والتداخلات السحنية والثقافية والسمات الاجتماعية المشتركة إنما هي ممهدات ومقدمات كعوامل طبيعية لتكوين صيغة "تكامل اقتصادي" والذي يتم بين مجموعة من الدول المتجانسة تاريخيا أو ثقافيا أو حضاريا أو اقتصاديا أو جغرافيا لتحقيق مصلحة اقتصادية مشتركة. ويسمى أيضا بالتكامل الاقتصادي الإقليمي، حيث يتم تقسيم العمل والتبادل التجاري بين بلدان المنطقة الجغرافية الواحدة، والشروط الموضوعية للتكامل الإقليمي يختلف بعضها عن البعض الآخر في أوجه متعددة، فهي تتعلق بأوضاع البلدان المشتركة فيه، وعلى مستوى التطور الذي وصل إليه القطر، وكذلك على درجة المصلحة الاقتصادية بين الأقطار المشتركة في التكامل الاقتصادي والشروط الأساسية للاتفاقيات.

ولكن الاستخدام السياسي السيئ لمجتمعات القرن الأفريقي وأنفلونزا الفكر السياسي "القروي" التي تصدرها دول القرن الأفريقي لبعضها البعض في مواسم كارثية جاءت بالحروب الأشد فتكاً بهذه الشعوب مقارنة بفترة الاستعمار الغربي لها .. وجعلت هذه المجتمعات تبدوا متنافرة ورافضة قبول بعضها البعض. مما شكلت عائقاً رئيساً دون تحقيق مثل هذه الطموحات. وجعلت هذه الدول مفتقدة لعناصر السلام والأمن الداخليين مما يجعلها مهددة بالتفكك والتدويل.

وإذا ما حاولنا البحث في ما وصل بهذه الدول لهذا المستوى المهدد لسلامتها ووحدتها وتعرضها للتفكك سنجد أن هنالك العديد من الأسباب الداخلية لوهن هذا الدول والتي صنعتها الأطماع الخارجية في الموقع الاستراتيجي الذي تحتله دول القرن الأفريقي والتي تتمثل في:

*    أهمية البحر الأحمر الذي أوجد أهميّة جيوبولتيكيّة (الجغرافيا السياسية ) للقرن الإفريقيّ لا سيما بعد شقّ قناة السّويس عام1869م أصبحت تتحكم في البحر ثلاثة مضائق تشكل صمامات الأمان وبمعنى آخر مداخله ومخارجه، هي " خليج العقبة الذي يحكمه مضيق ثيران، وخليج السويس الذي يحكمه مضيق جوبال ومضيق عدن في الجنوب والذي تتحكم في مدخله جزيرة بريم".

*    دخول البحر الأحمر في استراتيجيات القوى الكبرى الدولية نظراً لأهميته كونه معبراً ملاحياً حيوياً بين البحر المتوسط والمحيط الهندي ولوجوده في موقع وسيط بين اكبر مناطق إنتاج النفط في العالم، إضافة لتميز موقعه بالانتقال بين العروض المناخية المختلفة ومحاولة السيطرة والتحكم على هذه المنطقة من قبل القوى الكبر.

*    دخول البحر الأحمر ضمن الأطر المهمة للأمن القومي العربي، فهو من جانب يدخل في سياسة إسرائيل التي ترمي لتطويق الدول العربية المطلة عليه، كما يدخل في ظل حرص إسرائيل على تطوير ونشر قطع بحرية متطورة فيه لتهديد الدول العربية والحصول على موقع مهم.

*    استدراج إيران وإقحامها في هذه المنطقة بتوفير موطئ قدم لها في دائرة الصراع العربي الإيراني.

*    ورقة المياه التي تلعب بها تل أبيب في توظيف التناقضات العربية ـ الأفريقية، حيث استغلت إسرائيل الصراع الصومالي ـ الإثيوبي، والسوداني ـ الإثيوبي، والسوداني ـ الإريتري، والمصري ـ الإثيوبي، من أجل تحقيق أهدافها، وهي تقوم بالتحريض الدائم والمستمر ضد العرب في هذه المنطقة.

كل هذه الأسباب مجتمعة وأخرى تظهر بصمتها واضحة في طريقة وأسلوب الإدارات السياسية لهذه الدول وبعض الإدارات المعارضة لها جعل من منطقة القرن الإفريقيّ منطقة واقعة في دائرة التوتُّر والصراعات الإقليميّة والدوليّة وجعلت هذه الدول معرضة لتوتر واستقطاب داخلي حاد يمنع استقرارها ويفتح الباب واسعاً للتدخل الأجنبي، وأصحبت معرضة لخطر التمزق والتدويل لما تفتقده من عناصر أساسية تدرجها ضمن الدول المستقرة :

* الأمن.

* الإكتفاء المعيشي للسكان.

* قبول السكان لحكامهم .

* قوانين حقوق الإنسان .

* الحكم الراشد القائم على المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وحكم القانون، وغياب التنمية المستدامة العادلة والتنمية بشرية.

وهذا القصور  يجعلها مصنفة دولياً بالدول العاجزة أو المفككة ، ومشروع الوصاية الأجنبية في بناء الدول المفككة يكون أقل حظاً مع المعطيات المعاصرة ... إذاً فالسبيل الوحيد الذي يمكن أن ينقذ هذه البلدان، هو إدراك الحركات السياسية فيها أن الحروب الأهلية أعراض لأمراض حقيقة، وليست أداة للحلول. الحل يكمن في السلام العادل والشامل، وأن النظم الاستبدادية كذلك أعراض لأمراض الجسم السياسي، وهي دليل على وجود تلك الأمراض وليست سبيلاً لعلاجها، والعلاج يكمن في التحول نحو نظام سياسي يحقق المشاركة للكافة، ويعترف بالتعددية الجهوية وحاجتها للامركزية، ويعترف بالحاجة للتوازن التنموي، وبضرورة قبول الآخر ضمن تعايش ديني وثقافي. وفتح باب عريض أمام الحوارات الوطنية للحركات السياسية في هذه الدول واحد من الأساليب الناجعة لحل المشاكل العالقة والمعيقة لتقدم هذه الدول، وخطوة مؤتمر السلام الارتري بأهدافه المعلنة والذي سينعقد في لندن في الفترة 21-23 مايو 2010م يعد واحدة من الخطوات المهمة لإرساء دعائم السلام في منطقة القرن الأفريقي بصفة عامة وارتريا بصفة خاصة إذا ما شمل كل من يهمهم الأمر، ولكن إذا ما كان من أجل عرض واستعراض عضلات سياسية لبعض الشخصيات أمام كاميرات "المطبخ العالمي للسياسيات الدولية" وفتح بوابات للعلاقات العامة لجهات بعينها، فإنه سيكون مجرد تبديد للطاقات والجهود ولا فائدة ترجى منه، كما أن ملتقى الحوار الوطني الارتري للتغيير الديمقراطي المزمع عقده في يوليو القادم إذا ما خرج بآلية عمل قوية وموحدة في مواجهة النظام الديكتاتوري القائم في اسمرا سيكون له دور كبير في إرساء قواعد الأمن والسلام في منطقة القرن الأفريقي.

ويقيناً منا بأن المشاكل السياسية التي تعاني منها دول القرن الأفريقي هي كنزلة البرد المعدية التي لا تحتاج إلى كثير من العناء في تشخيص الحالة وإيجاد العلاج الناجع لها والعمل على عدم انتشارها، استعرنا بعض ما جاء في روشتة  توصيات السمنار الذي نظمه المركز العالمي لإعادة تأهيل الصومال بمدينة لند السويدية والذي كان عنوانه (القرن الافريقي: الحكم الراشد مفتاح التحول الديمقراطي والتنمية المستدامة. وذلك في الفترة من 14 ـ 16 أكتوبر (تشرين الاول) 2005.)  كوصفة يمكن أن تسهم في الحالة الارترية في المؤتمرات الحوارية القادمة والذي جاءت أهم توصياته كالآتي:


*    إن الذين يقومون على إعادة بناء الدولة، ينبغي أن تكون لديهم رؤية كلية لصورة البناء المنشود.

*    إن تلك الصورة، ينبغي أن تجسدها اتفاقية للسلام ولنظام حكم شاملة وعادلة.

*    أن اتفاق الأطراف المعنية، ينبغي أن يحدد آثار الحرب ويبرمج لإزالتها، وأن يحدد أسباب النزاعات ويحدد كيفية القضاء عليها.

*    الدولة المركزية الصارمة أخفقت، وينبغي التطلع للبديل اللامركزي.

*    الدولة الاستبدادية الأحادية تعمق النزاعات، وينبغي العدول عنها لصالح المشاركة والتوازن.

*    أن الولاءات الموروثة الدينية والثقافية جزء لا يتجزأ من هوية المجتمعات، ينبغي الاعتراف بها والعدول عن محاولة إخضاعها لرؤية دينية أو ثقافية أحادية، بل تعايش وتسامح وقبول للآخر.

*    إن التنمية الاقتصادية هدف استراتيجي، وينبغي أن يراعي التوفيق بين حرية آلية السوق والعدالة الاجتماعية.

*    إن استقرار بلدان القرن الأفريقي يوجب الاتفاق على معاهدة تضامن أمني وتنموي إقليمي فاعل.

*    إن للأسرة الدولية دوراً مهماً في تحقيق هذه التطلعات، لكن هذا الدور ينبغي أن يؤسس على المشروع الداخلي. (والمشروع الداخلي لا يتم وضع حجر الأساس له بغياب أو تغييب بعض الأطراف أي أن كانت هذه الأطراف طالما أنها جزء من الهوية).


ملاحظة بريئة : عمر هذه التوصيات خمسة أعوام وحال الصومال لا يخفى على أحد ويعاني من حرب طاحنة منذ أعوام عدة حتى الوقت الراهن، ترى أيُ يد شيطانية تخلق حالة عدم الاستقرار في الصومال بصفة خاصة والقرن الأفريقي بصفة عامة؟ ومن المستفيد حين تسود الأوضاع الفوضوية في هذا القرن ... منذ أن فتحت عيوننا على هذه الدنيا نرى هنا حكومات إقصائية راسخة بدعم وتشجيع غريب ولها معارضات مسلحة ... والموت يطال فقراء القرن الأفريقي فقط ...


محمد سعيد إبراهيم عبد الله "التركي"   
Mohamed Saeed Ibrahim Abdalla "Al turki"
This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.